شرح حزب البحر للشيخ أبي الحسن الشاذلي/أحمد زروق


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد هوعاشرف الأنبياء والمرسلين وعلى اله وصحبه وسلم .



قال الشيخ رضي الله عنه : ( يَا عَلِيُّ يَا عَظِيمُ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيْمُ، أَنْتَ رَبِّي وَعِلْمُكَ حَسْبِي فَنِعمَ الرَبُّ رَبّي ونِعمَ الْحَسبُ حَسْبِي، تَنصُرُ مَن تَشاءُ وَأَنْتَ العَزيزُ الرَّحيم ).


افتتح الشيخ الحزب بهذه الجملة لأنها تشعر بعظمة الربوبية، وذلة العبودية، والاكتفاء بعلمه، والرجوع إليه بكل حال، والتفويض له في الأمر موافقا للغرض أو مخالفا له، مع الثناء عليه بكل بكمال الوصف الذاتي أولا، والفعلي آخرا، لأن كمال التوجه إنما يكون بذلك ، فكل توجه لا يشعر صاحبه بعظمة الربوبية، وذلة العبودية فيه، فهو تلاعب ونحوه ، وبذلك وقع الجواب عن عدم انتفاع كثير من الناس بأدعية وأذكار صحيحة الوعد بالإجابة، مجزئة عند أهل الصدق والإخلاص .


والاكتفاء بعلمه تعالى، مع حسن الظن به، والتفويض إليه في الإجابة والعطاء من آداب الدعاء، وعمدة شأنه، حتى قال الشيخ محمد عبد العزيز المهدوي رضي الله عنه : "مَن لم يكن في دعائه تاركا لاختياره، راضيا باختيار الحق له فهو مستدرج، وهو ممن قيل له : اقض حاجته فإني أكره أن أسمع صوته".


فإن كان مع اختيار الحق تعالى ، لا مع اختياره لنفسه، كان مجابا، وإن لم يعط، والأعمال بخواتيمها . ثم الذي تضمنته الجملة من الأسماء عشرة، سبعة ظاهرة، وثلاثة باطنة، أي تفهم فهما ولم يصرح بها تصريحا كالسبعة الظاهرة. فأما السبعة الظاهرة فهي اسمه : العلي، العظيم، الحليم، العليم، الرب، العزيز، الرحيم . وأما الثلاثة الباطنة فهي اسمه : الكافي، النصير، الفعال لما يريد .


معانيها :


فالعلي : هو الذي يصغر عند ذكر وصفه كل شيء سواه .

والعظيم : هو الذي لا نسبة لاحد معه في علو شأنه، وجلالة قدره، ذاتا، وصفة، واسماء، وأفعالا.

ثم، هو العلي في عظمته فوق كل عظمة لغيره، والعظيم في علوه عن كل علو لا يليق بذاته .

والإسمان متداخلان،يسري معنى كل منهما في الآخر بارتفاع الوصف إلى غاية ما يراد به .

والحليم : هو الذي لا يدعوه الغضب لتعجيل العقوبة على من عصاه، فيمهل العاصي وإن كان لا يهمله، ثم إذا ترك العقوبة فهو غفور رحيم .


والعليم : هو المحيط حلمه بالكائنات وغيرها، إحاطة لا يدخلها قصور، ولا شرط ، فهو يعلم ذنوب عباده ولايعاجلهم بالعقوبة حلما منه، وذلك من عظمته وعلو شانه الذي ظهر به البحر، وجرى به التصرف فيه .


وكان هذا من باب التعريض بذكر الأسماء المناسبة للحالة، لأن البحر مخلوق عظيم، علي في شأنه، وقد ظهر فيه من عظمة الله وعلو شأنه ما لله للخلق، وسخره لهم، حتى أكلوا منه لحما طريا، واستخرجوا منه حلية يلبسونها، وأجرى فيه الفلك بما شاء من قدرته، فلم يبق لعلوه ولا لعظمته نسبة إلا الدلالة على عظمة مسخره وعلو شأنه .ثم إن البحر يركبه العاصي والمطيع، فلم يسلطه عليهم حلما منه ولطفا، مع علمه بجرمهم فيه، بل إذا تأملت وجدت القائمين فيه، والمترددين له اشد الناس عصيانا، وأكثرهم تمردا، حتى يتحقق أن السير فيه بفضل الله ورحمته، وإن الأسباب لا أثر لها في البحر

.


فالبحر دال على عظمة الله بذاته وصفاته، وعلى علمه بأفعال الخلق فيه، وكل ذلك من علو شأنه تعالى في ذاته، وصفاته، وأفعاله، إذ لا أعظم من حلم مع علم، ولا أقوى من عظمة في علو شأن .

وقد قيل إن هذه الجملة هي اسم الله الأعظم، ورجحه ابن عبد البر، وهو مقتضى الأصل في الأولين، ومرجع الفروع في الآخرين .


وقيل لبعض الناس في المنام : كل اسم سرى معناه في الأسماء فهو الأعظم، وذلك في الأسماء الحسنى بسبعة أو ثمانية منها العظيم، وليس منها الرحمن .


قلت : وعلى ذلك الأحاديث، إذ لا يوجد ما جاء فيه أنه الاسم الأعظم إلا كذلك، مع اختلاف الألفاظ وتعدد الأسماء والأوصاف، مرة بالبسط والجمع، ومرة بالأفراد والتركيب، فافهم .


فاسمه تعالى : ( العلي العظيم ) سار بيَن في اسمه ( العليم ) و ( الحليم ) لأنه علا في حلمه وعلمه، وعظيم في ذلك كله، ولأجل سريانها في كل معنى تعلق بالذات والصفات والأفعال، جعلا خاتمة آية الكرسي التي افتتحها بأسماء الذات، ثم جوامع الصفات، ثم ما يجري في الأفعال وتجري به، فافهم

ثم من علم أنه العلي العظيم لزم التعظيم والإجلال قلبه، وانطبعت به روحه، وانبسط به سره، فلم يبق له عن نفسه إخبار، ولا يقر له مع غير الله قرار، ومن علم أنه عليم ، حليم به، راجيا إحسانه، ومحسنا الظن به في جميع الأحوال فلم يبقى للبحر ولا لغيره في عينه نسبة، شغفا بمولاه، وفناء فيه دون ما سواه فيقول بكل جارحة فيه :


أنت ربي، الذي لا رب غيره ... ولا يصح , أن يكون لي رب غيره


لكمال وصفه في عظمته، وعلو شأنه، فلا أبالي بغيره، ولا أتوجه لسواه، ولا أرجو النفع وأخشى الضر من غيره .

والرب : المالك الذي يرعى عباده بإحسانه فلا ملك غيره، ولا مدبر سواه .

فكلمة الشيخ - أنت ربي - تبر من التعلق بسواه .

وقول الشيخ : (علمك حسبي ) : اكتفاء بعلم الله، ومن لازم ذلك التفويض إليه فيما هو به، والنظر لما عنده بلا سبب من نفسه .

ومعنى ( حسبي ) : يكفيني فيما أنا فيه، وهو في هذا الكلام متأسيا بخليل الله - إبراهيم عليه السلام - حين زُج به في المنجنيق، فتلقاه جبريل قائلا : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا، وأما إلى ربي فبلى، قال : إذن فاسأله ؟ قال : " حسبي من سؤالي علمه بحالي " .

وهو طريق العارفين عند تعذر الأسباب، أعني الرجوع للعلم بالاستسلام، وترك الطلب، بخلاف حال قبول المحل للأسباب , فإن العمل بها مطلوب، واعتبر هذا بأمر أم موسى بإلقائه في البحر، وإجابة الملائكة للوط عليه السلام، بقولها : (إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) عند قوله لقومه : (لَوْأَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) . فهو صلوات الله عليه وسلامه، أراد مقابلتهم بالإسبال لو وجدها، فأجيب بنفوذ الأمر، وإنه لا محل لها، ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :

(يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، على معنى أن ترحمه عليه إنما كان لظنه أن الأسباب بقى لها محل، لا يفهمه من لا حقيقة عنده، مما يؤدي إلى الضلال ونحوه، فافهم.

واعلم أن التوجهات عند الاحتياج ثلاثة :

أولها : التوجه بالاستسلام ، وذلك عند تعذر الأسباب كما تقدم .

الثاني : التوجه بالسؤال والطلب، وذلك عند انشراح القلب، وجريانه بالمعتاد، وموقف تذكر النفوس بالافتقار، حيث غفلتها عن التوحيد والاضطرار، أو يكون انبساط تعليم أو تذكير أو نحوه .

الثالث : التوجه بالتفويض، وذلك حين يغلب حسن الظن والاكتفاء بالعلم، وبتحقيق التوحيد ، والاشتغال بالذكر، كقول إبراهيم عليه السلام (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ[الشعراء:82]، وقول موسى عليه السلام (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[القصص:24] ، وقول نبينا صلى الله عليه وسلم : (لا غنى لي عن عافيتك، عافيتك أوسع لي)

إلى غير ذلك .

وقالوا :أَأَذكُرُ حاجَتي أَم قَد كَفاني. حَياؤُكَ إِنَّ شيمَتَكَ الحَياءُ.

إِذا أَثنى عَلَيكَ المَرءُ يَوماً. كَفاهُ مِن تَعَرُّضِهِ الثَناءُ.


و إنما كان البحر لامدخل للأسباب في تسخيره، فحسن التفويض في شأنه .

ولما كان مما تداخله الأسباب في التصرف فيه حسن السؤال في ذلك، فلذلك جمع الشيخ بينهما ، فانظر ذلك .

وقول الشيخ رضي الله عنه : ( فنعم الرب ربي .ونعم الحسب حسبي ) :

أتى به الشيخ للاستشعار بعظيم الثناء، حتى تسكن النفس له تعالى مما يريد طلبه والتوجه فيه ، لشعورها بالعظمة فيما هي به، وإلا فهي جملة متحققة، اذ هو نعم المولى ونعم النصير، ومن كان كذلك لا يخذل من تعلق به، ولا يهمل من استند إليه، ومن توكل عليه، قال تعالى : ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق:3] أي كافيه، ووافيه، وناصره .


وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن قوم قائلا :الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173، 174).

فجعل خاصية هذا الذكر لمن قال بإخلاص جريان النعمة والفضل، وصرف السوء، وحصول التوفيق , ثم عرض بالزيادة على ذلك إذ قال تعالى : (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 174].

وقد كان نقش خاتم مالك عليه السلام -حسبنا الله ونعم الوكيل - فقيل له في ذلك، فقال : ذكرناه بها ، فافهم .


وقول الشيخ : ( تنصر من تشاء ) :

هو موقف التفويض بالرجوع إلى انه يفعل ما يشاء، فلا ينازع في حكمه، ولا يكون إلا ما يريد، لانه العزيز، أي الغالب الذي لا يُغلب، والقادر الذي لا يرد أمره، فلا يسع إلا الاستسلام له ، والرحيم الذي يرحم عباده بإيصال إمداده من نصر وغيره، بظهور العزة في المنصور عليهم ، وظهور الرحمة في المنصورين، فرحم هولاء بعين ما به نصر على هولاء، قال تعالى : (يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ)[العنكبوت:21] .

وبالجملة فالشيخ رضي الله عنه قد أت في هذه الجملة بجوامع التوحيد، وينابيع الإيمان، وخالص الحقيقة، على بساط تعظيم الربوبية، وافتقار العبودية .

فاشعر باتساع الرحمة في عين الجلال، وبالجلال الواسع في عين الرحمة .

ثم يسأل الشيخ مولاه العصمة التي هي منع الوصول إلى الذنب بعد القدرة على وجه لا يمكن تخلفه ، لا يجابه من الله، وإن كان جائزا في أصله.




ثم قال الشيخ رضي الله عنه :


 (نسألُكَ العِصمةَ في الحركاتِ والسَّـكنَـاتِ والكلماتِ والإراداتِ والخَطَراتِ من الشكوكِ والظُّنونِ والأوهـام السـاترةِ للقلوبِ عن مُطالعةِ الغيوب).


قلت : سؤال العصمة من موجبات الحجاب بأي وجه كانت، لأن الحجاب أصل كل بلية، كما أن العصمة أصل كل وقاية، حتى لقد قيل : أنها الامتناع من الذنب مع استحالة الوقوع فيه، أي امتناعه تحقيقا لا يجاب ذلك من الله عز وجل، لا أنه مستحيل لذلك .


ثم أن العصمة تقع في نفس الأمر لمن خصه الله بها من نبي، أو ولي، أو غيرهما عموما، إلا أنها واجبة للأنبياء فلا يصح تخلفها عنهم، ولا دعواها من غيرهم، لجواز النقيض عليهم، وانما يصح وصف غيرهم بالحفظ الذي هو انتفاء النقيض مع إمكان الوقوع فيه، فالأنبياء معصومون، والأولياء محفظون في حكم الظاهر .


وقد يكون الحفظ من العصمة في علم الله، ولكن لا سبيل لنا إليه، وان كنا نطلب وجوده، والله اعلم .


وقد قال تعالى : ( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )آل عمران:101] وقال نوح عليه السلام لابنه : (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ)[

هود - الآية 43] .


فقول الشيخ رضي الله عنه : (نسألك العصمة) نريد أن نطلب منك آن تمنعنا من الذنوب بالستر عنها حتى لا نعرف طريقها، ولا تخطر لنا على بال، ولا تنزل بنا في حال من الأحوال، فتعصمنا في الحركات، التي هي التقلبات يمينا وشمالا ، وخلفا وإماما، والسكنات هي : الثبات في محل واحد، دون تقلب، وجميعها كالحركات اعتبارا بتعددها في الحالات .


والكلمات والحركات : التي هي حركات اللسان والقلب كالنطق بالحروف والاصوات .

والارادات : التي هي الميل إلي الأفعال والأقوال بحركات القلب في الاختيار .

والخطرات : التي هي حركات الضمائر في التقلبات أولها الهاجس وهو غير مأخوذ به وآخرها العزم والصحيح المؤاخذة به، وفيما بينهما اختلاف .


وهذه الخمسة هي مجاري الحسنات والسيئات، والذي يطلب العصمة منه فيها إنما هو الظنون والشكوك والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب غيوب الأسرار العرفانية والأسرار الربانية والحقائق الإيمانية التي من حجب عنها وقع في الغموم والهموم، كما أشار إليه سيدي ابن عطاء الله في حكمه بقوله : "ما تجده القلوب من الهموم والأحزان فلأجل ما منعت من وجود العيان".


ثم قوله رضي الله عنه ( الساترة ) : إلى آخره وصف للظنون والشكوك والأوهام، فهي تارة تكون ساترة، وتارة لا تكون ساترة، وقد استعاد من هذه لاعتراضها، وترك الأخرى لأنها موافقة للحق، أو غير ضارة فيه .


وقد ذكر الشيخ رضي الله عنه في هذه الجملة جميع الحركات النفسية وما فيها من النقص، فهو قد أتى فيها بتعريف النفس ونقصها ، كما أتى في التي قبلها بذكر الرب تعالى بكماله، وهذا هو العلم النافع، والحقيقة التامة، فقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن العلم النافع، فقال : "هو ان تعرف ربك ، ولا تعدو قدرك" .


وعليه مدار كلام الشيخ هنا فتأمله راشدا، وبالله التوفيق .




ثم اعلم أن الظنون والشكوك والأوهام، جمع ظن وشك ووهم : فالظن : ما ترجح من طرفي الممكن .والشك : ما استوى الراجحية والمرجوحية من الممكن . والوهم : المرجوح من الطرفين، وكلاهما مبادي الخير والشر، فيطلب صرفها لئلا تتمكن فلا يصح نفيها، كما قيل : ادفع ردى الخواطر قبل أن يسري الهم لئلا يعيبك . ومما قيل أيضا : أول الذنب الخطرة كما أن أول السيل قطرة . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إياكم والظنَّ فإنَّ الظن أكذَبُ الحديثِ) متفق عليه .

وإنما ينشأ الظن الخبيث عن القلب الخبيث لافي جانب الحق ولا في جانب الخلق، كما قيل:


  إذا ساء فعل العبد ساءت ظنونه       وصدق ما يعتاده من توهم

وعادى محبته بقول عدوه             وأصبح في ليل من الشك مظلم


وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خَصْلَتَان لَيْسَ فوقَهُما شَيءٌ منَ الخير: حُسْنُ الظن بالله،وحُسْنُ الظن بِعباد الله. وخَصْلَتَان لَيْسَ فوقَهما شيءٌ مِن الشرِّ: سُوءُ الظنّ بِالله، وسُوءُ الظنِّ بِعِبادِ الله» رواه الديلمي.


وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : (قرأت ليلة "قل أعوذ برب الناس" فقيل لي : شر الوسواس وسواس بينك وبين حبيبك، يذكرك أفعاله السيئة، وينسيك أفعاله الحسنة، ويقلل عندك ذات اليمين، ويكثر عندك ذات الشمال، ليعدل بك عن حسن الظن بالله وكرمه إلى سوء الظن بالله ورسوله، فاحذر هذا الباب فقد أخذ منه كثير من العباد والزهاد وأهل الطاعة والسداد).


والعافية الكاملة هي سكون القلب إلى الله باليقين الموجب للرضا والتسليم، والبلية كلها في الشك والاضطراب والتردد بين الخواطر المتزاحمة التي لا يهنأ لصاحبها عيش ولا يقر له قرار . ومظاهر هذه الظنون والشكوك والأوهام إنما هي البلايا الظاهرة، والمحن العارضة، وقد أجراها الله تعالى لعباده المؤمنين ليميز الخبيث من الطيب، فيزداد الذين آمنوا إيمانا، ويظهر على المنافقين كفرا وطغيانا .


ومن مقتضى ذلك أن يرجع المؤمنين إلى الله بالرجاء والالتجاء وتصديق وعد الله في الامتحان والابتلاء، إذ قال تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد:31]

وقال سبحانه وتعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم}[البقرة:214]

وقال تعالى : ( ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ).[العنكبوت:1]


وإلى هذا أشار الشيخ بقوله: فقد ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا.


قلت : أتى الشيخ بهذه الجملة كالمتعذر عن سؤال العصمة، وتعريضا مما هو فيه من الشدة التي تحرك أثر النفس المثير لظهور المرض الكامن في القلب، المؤدي إلى سوء الظن بالله، كما وقع للمنافقين في شأن الخندق إذ جاءهم العدو من فوقهم ومن تحتهم ومن اسفل منهم، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وظن من في قلبه شيء بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وظهر ما في قلوب المؤمنين على ألسنتهم، قال تعالى : {هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}.[الأحزاب:22]


فكأن ، الشيخ رضي الله عنه يقول : إنما سألت العصمة خوفا من الزيغ عند الابتلاء الذي لابد منه للمؤمنين حتى يميز الخبيث من الطيب، لأنه لا عاصم من أمر الله إلا من رحم ، وذلك من الشفقة على الإيمان الذي هو رأس المال وأساس الأعمال، قال تعالى : {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.[آل عمران:101]




ثم قال الشيخ رضي الله عنه : ( فَثَبِّتنا وانصرنا وسَخِّرْ لنا هذا البحرَ كما سخَّرْتَ البحرَ لموسى عليه السلام * وسخَّرْتَ النارَ لإبراهيمَ عَلَيهِ السَّلام * وسخَّرْتَ الجبال والحديد لداودَ عَلَيهِ السَّلام* وسخَّرت الرِّيحَ والشياطينَ والجنَّ لسليمانَ عَلَيهِ السَّلام ).


قلت : هذه من الأعجاز إلى الصدور، وترتيب المقاصد من رد على المقدمات، فالتقدير فثبتنا في محل الزلل، وهو موقف الشدائد والأهوال، وانصرنا على أعدائنا من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وسخر لنا هذا البحر الذي نحن فيه معرضون لذلك، تسخيرا ينفي كل ما يخشى، ويأتي بكل ما يطلب ويرتجى .


وقد يقال : ثبتنا على الإيمان، وانصرنا باليقين، وسخر لنا هذا البحر من أمر الدنيا والدين حتى نسلم من الشكوك، والظنون، والأوهام، ونتأيد بحقائق الإيمان والإسلام، اذ من علامات التأييد حفظ التوحيد في أوقات الحكم، كما قاله سيدي ابو علي الدقاق .


والتشبيه في التسخير من جهة التيسير والكرامة، لا من جهة المقابلة والمناظرة، لان ذلك التسخر كان بكرامة الله، ومع إحسان الله، فكان مقويا للإيمان، كما انه مظهر للإحسان .


فسخر البحر لموسى عليه السلام في نجاته أولا حين ألقته أمه فيه،ثم سخره له ثانية بنجاته مع إهلاك مكذبه وغرق عدوه،

وسخرت النار لإبراهيم عليه السلام فجعلتها عليه بردا وسلاما، وسخرت الجبال لداود عليه السلام والحديد بان تسبح معه بالعشي والإشراق وتؤوب معه إلى ربها، وتسخير الحديد له بتليينه له، ولمن حضر معه، يعينه في أعمال الدروع حتى صار كالعجين بين أيديهم، وسخرت الريح لسليمان غدوها شهر ورواحها شهر . قال تعالى : (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ)[الأنبياء:82] بل (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ)[سبإ:13] كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن ذلك .


والشياطين نوع من الجن لم يعمل خيرا قط، ولا أهل له، عكس الملك، فذكره الشياطين من قبل الجن من الخصوص قبل العموم . والله ورسوله اعلم .




معنى الملك والملكوت :


الملك : عالم الشهادة والحس، وهو من شانه أن يدرك بالحس والوهم كما تقدم .

والملكوت : عالم الغيب والخفاء، وهو من شانه أن يدرك بالعقل والفهم كما تقدم أيضا .


معنى بحر الدنيا وبحر الآخرة :

 

بحر الدنيا وبحر الآخرة : يعني البحر الذي هو بالدنيا، والبحر الذي هو الآخرة، فإنهما هائلان ومهيلان،  بل هما أعظم البحور، وفيهما معنوي وحسي ، وكل ذلك لا يجري فيه إلا بتسخير الله، فوجب ان يرجع الى الله فيه .

وإنما قال ( بيده ملكوت كل شيء ) ولم يذكر ملكه، اكتفاء بالأقوى عن الأضعف، فمن يملك ملكوته يملك ملكه ضرورة بخلاف العكس، والله اعلم .


ثم قال الشيخ رضي الله عنه : ( كهيعص، كهيعص، كهيعص ).


قلت : لقد اختلف العلماء في هذه الفواتح المعجمة في أوائل السور، فقال قوم :هي من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله وحده. وقال ابن السبكي : وقد يطلع الله عليه بعض أصفيائه . وقيل هي خواتيم رب العالمين . وقيل : هي اسم الله الأعظم . وقيل: هي أعداد الملة المحمدية، وكم يدوم زمانها . والذي يتحقق من ذلك أنها رموز لا يعلم حقيقتها غير واضعها ،ولا يمنع اختلاف الفهم فيها من أن يكون لها معنى لا يدركه أحد من الخلق .


ومن وجوه الفهم، إنها تراجم على ما تضمنته السورة من معاني، وإلى ذلك نحا الشيخ برمزها، والله اعلم .


وهي خمسة أحرف : كاف الكفاية، وهاء الهداية، وياء الولاية، وعين العناية ،وصاد الصدق .

وكل هذه الأسماء الخمسة ظاهرة في كل قصة من هذه السورة المباركة، ألا تراه كفى زكريا الموالي من ورائه، وهداه لدعائه، وشكره في حاله، باعترافه بعجزه عن ما أولاه من إصلاح زوجه، وإتيانه ولدا مع ضعفه، واظهر عنايته عليه، وعلى زوجه وولديه فيما تولاهم به، ثم فعل ذلك بمريم وولدها، وإبراهيم وولديه، وموسى وأخيه، وما منً به على إدريس  ونوح، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام . وتفصيل ذلك يطول، ووجه الفهم فيه بالبصائر أتم من الرسم .


وعلى هذا الوجه، ذ كر الشيخ لها إنما هو تعريض بطلب الكفاية، والهداية، والولاية ، والعناية، وتحقيق الوعد في الإجابة في طي التسخير المذكور على وجه لا يحصره الحد، ولا يحصيه العد ، ولا تمكن الإشارة إليه إلا بالرموز .


وكون لك على الوجه الواقع لمن ذكر كما تقدم في قوله (كما سخرت البحر لموسى ) إلى آخره فافهم .

وقد تكون الحروف من أسماءه جل وتعالى : الكافي، والهادي، والولي، والعظيم، والصادق وعده .

وقد يكون المعنى إنها رمز في الوجهين لاتساع المعاني، وعظيم المباني، وقوة الأثر في النفس، واقتداء بالكتاب العزيز في رفع السر .


وتكرير الشيخ الكلمة ثلاثا، إما اعتبار لحصول المعنى المقصود في جسمه وقلبه وروحه، أو اعتبار بطلب ذلك في الظاهر والباطن، أو فيهما، أو اعتبار بالحال والماضي والاستقبال، وقد يكون اعتبارا بالمنفصلات، والمتصلات، والأمور المشتركة . وها بحسب ما يتناوله الفهم، ويقرب لأذهان الخلق، وهو المقصود عند ذوي المعارف في بساط التعليم .


وقد رام بعض الناس اعتبر ذلك بأعداد الحروف وما يجري فيها، والخواص وما يقال فيها، وتوهم آخرون أن هناك سرا لايفهم ولا يصح ان يمس بالإدراك .

والأول : مبارك، قريب، يثير قوة النية .

والثاني : بعيد لأنه يسد باب الفهم .

وقد تقيد القلم عما سوى ما ذكرت ، والأمر لله و حده ، والسلام.



ثم قال الشيخ رضي الله عنه : (انصُرنَا فإنَّكَ خيرُ النّاصِرِينَ، وافتَحْ لنَا فإنّكَ خيرُ الفَاتِحينَ ، واغفِرْ لنَا فإنَّكَ خيرُ الغَافِرينَ ، وارحَمْنا فإنّكَ خيرُ الرّاحِمينَ ، وارزُقنا فإنّكَ خيرُ الرّازِقينَ ، واهْدِنَا ونَجِّنَا مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وهَبْ لنَا رِيحاً طيّبةً كما هيَ في عِلمِكَ ، وانشُرْها علينا مِنْ خَزَائِنِ رحمتِكَ ، واحمِلْنَا بِها حَمْلَ الكرامةِ معَ السّلامةِ والعافيةِ في الدّينِ والدُّنيا والآخرةِ إنّكَ على كلِّ شيءٍ قدير) .


قلت : هذا تفسير لموقع التسخير بماذا يكون , كما ان قبله رمز واجمال له , فهذه الجملة تفصيل وتفسير في تفضيل , فالنصرة من بساط الكفاية , والفتح من بساط الهداية , والرزق من وجوه الولاية , والرحمة والهداية من عين العناية , والنجاة من صدق الوعد , قال تعالى : {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}, وذكر الريح الطيبة رجوع للحاجة المناسبة , وكونها ريحا طيبة هو المقصود لا مطلق الريح , إذ قد تكون مهلكة , بل كل ما جاء في القران من الريح بالأفراد , إنما جاء بالإهلاك غير ما قيد في قوله تعالى : (وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) في مقابلة قوله تعالى : ( جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ) فافهم .


وقوله : (  كَما هيَ في عِلمِكَ ) : تبري من الاقتراح بتعيين المطلب , ورجوعا للتفويض في تعيينه , وكأنه يقول : الريح الطيبة في علمك هبها لنا , كان ذلك موافقا لعلمنا او مخالفا له , لأنه لا يعلم النافع والأنفع على الحقيقة إلا أنت , فإنا قد نحب الشيء وهو شر لنا , ونكره الشيء وهو خير لنا , وقد وقع علينا من ذلك أنا قد توقف علينا الريح , فكان جماعة منا يطلبون الريح الأريب لاعتقادهم أنه الموصل إلى طيب , وكنا نتجنب اقتراضهم في ذلك خوفا مما ذكرنا من ذلك , وربما نهيتهم عنه , فآتى الله بأريب عاينا منه الغرق , ولولا غيره جاء في الحال لكان ذلك , فرجع عقالهم لطلب الريح الطيبة على الإطلاق , فاسترحنا , واستمر الآمر والعافية .


ثم قوله رضي الله عنه : (وانشُرْها علينا مِنْ خَزَائِنِ رحمتِكَ) : يعني , واجرها لنا بالرحمة , ومن عين الرحمة , لا بالغضب , ولا من عين الغضب , لأنه تعالى قد يرحم بما به يعذب , وبعذب بما به يرحم , وقد أهلك الله قوم عاد بالريح , وسخرها لسليمان عليه السلام , فكانت من النعم في ملكه ,و أجراها كذلك في البر والبحر , وكذا سائر الأسباب الجارية , يرحم بها قوما ويعذب بها قوما آخرين , فإذا جرت من بساط الرحمة كانت نعمة , وإذا جرت من بساط الغضب كانت نقمة , ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول عند هيجان الريح : ( اللهم لا تهلكنا بسخطك وعقابك وعافنا قبل ذلك ) وقد يكون طلبه من بساط الرحمة لا بسبب ولا بعلة .


وقوله رضي الله عنه : (واحمِلْنَا بِها حَمْلَ الكرامةِ معَ السّلامةِ والعافيةِ في الدّينِ والدُّنيا والآخرةِ) يعني واحملنا بالريح حمل الكرامة التي حملت بها آدم وبنيه , ونوحا وذريته , فقلت وقولك الحق : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) . واحترز بحمل الكرامة من حمل الإهانة الذي سلط على قوم عاد , اذ كانت تحمل البعير بحمله , قال تعالى : ( مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) . والسلامة, نفي العوارض والآفات حتى لا يلحقه شر ولا ضر . والعافية , خلو الوقت عن الانزعاج , والاضطراب , والتغلب , ثم إن كان بالسكون إلى الله والرضى عنه فعي العافية الكاملة . وان كان بجريان الأسباب الموافقة فهي العافية العادية , والسلامة في الدين بامتثال الأوامر , والاستسلام للقهر من غير مناف , ولا معارض . والسلامة في الدنيا , بجريان الأغراض على الموافقة , ونفي العوارض عن كل حالة موافقة . ويجمع ذلك العيشة الهنية والحالة المرضية , لأنه لا يتم أمر الدنيا والآخرة إلا بالهناء , حتى إن أهل الجنة في الجنة لولا قوله تعالى : (هَنِيئًا ) بعد : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا ) ما صح كونه منة عليهم .


وقول الشيخ رضي الله عنه : (إنّكَ على كلِّ شيءٍ قدير) : يعني أن ذلك لا يعز عليك , ولا يبعد في قدرتك ان تعطيني ذلك بلا سبب ولا علة . وفيه إشعار بعجز العبودية , واتساع الربوبية , والمنع والعطاء , والتيسير , وغيره



ثم قال الشيخ رضي الله عنه : (اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنا أُمُورَنا * مَعَ الرَّاحَةِ لِقُلُوبِنا وأَبْدانِنا * وَالسَّلامَةِ وَالعافِيَةِ فِي دُنْيانا وَدِينِنا * وَكُنْ لَنا صاحِبًا فِي سَفَرِنا * وَخَلِيفَةً فِي أَهْلِنا * وَاطْمِسْ عَلَى وُجُوهِ أَعْدائِنا * وَامْسَخْهُمْ عَلَى مَكانَتِهِمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ المُضِيَّ وَلا المَجِيءَ إِلَيْنا) .


قلت : لما سأل الشيخ رضي الله عنه العافية والسلامة في الدين والدنيا والآخرة، سأل التيسير في مع ذلك في الأمور، لأنه ليس لازم لهما ولا عبرة به إلا معهما، وكل ذلك دون راحة القلب والجوارح لا فائدة فيه .


وإنما قدم ذكر الدنيا على الآخرة لأن السلامة والعافية فيها أصل في تحصيل الآخرة، وكمال فضائلها، إذ لا كمال مع فساد الطبيعة، ولا راحة من مزعجات النفس، ولابد من علم وعقل وعيش في جميع الأحوال، ولذلك قال سيدي بن عطاء الله في الحكم :"مِنْ تَمامِ النِّعْمَةِ عَلَيْكَ أنْ يَرْزُقَكَ ما يَكْفيكَ وَيَمْنَعَكَ ما يُطْغيكَ. لِيَقِلَّ ما تَفْرَحُ بِهِ، يَقِلَّ ما تَحْزَنُ عَلَيْهِ". انتهى .


وإنما سأل رسول له صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعل قوته كفافا بكفاف حتى لا يكون له عدم مزعج، ولا وجود مشغل، ويرحم الله أبا علي الثقفي رضي الله عنه حيث قال : أف لأشغال الدنيا إذا أقبلت، ولحسرتها إذا أدبرت، والعقل لا يركن إلى شيء إذا أقبل كان شغلا، وإذا أدبر كان حسرة .


وانشدوا في ذلك :

ومن يحمد الدنيا لعيش يسره      فسوف لعمري عن قريب يلومها

إذا أدبرت كانت على المرء حسرة      وإن أقبلت كان كثير همومها 


وقول الشيخ رضي الله عنه : (وَكُنْ لَنا صاحِبًا فِي سَفَرِنا * وَخَلِيفَةً فِي أَهْلِنا)


يعني لا نظلم ولا نضام، ويجري الخير فيما خلفنا كما هو معنا، وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم : (اللّهُمَّ أَنتَ الصّاحِبُ في السَّفرِ والـخَليفَةُ في الأَهلِ والـمالِ) . والخليفة، هو كافل الأمر وكافيه بعد مستحقه بتوكيله .


والصاحب الملازم بإبداء المنافع ودفع المضار، وإطلاقها في حق الباري سبحانه على معنى الكفاية، والكفاية بزيادة الرحمة، والإعانة، وإجراء المنافع، ودفع المضار، ولولا أن الشارع أتى بهذين اللفظين ما صح إطلاقها على أحد، وإنما أطلقها الشارع تقريبا للأفهام. 


ثم اختلف العلماء في جواز ذلك لغيره اعتبارا بالمعنى وعُرف التخاطب، أو اتقاء مواقف الشبهة والإشكال، فتدبر ذلك واعرفه .


وقول الشيخ رضي الله عنه : (وَاطْمِسْ عَلَى وُجُوهِ أَعْدائِنا) معناه رد وجوههم على أدبارهم، حتى لا يمكنهم التصرف على وجه يريدونه، ولا بوجه مستقيم، قال تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) ، فجعل تفسير الطمس بردها على أدبارها، فانظر تفسيره .


وقوله : (امْسَخْهُمْ عَلَى مَكانَتِهِمْ) يعني الزمهم إياها عجزا وضعفا فلا يستطيعون المضي عن أماكنهم لغيرها، ولا المجيء إلينا فيستريح غيرنا منهم كما نستريح.


ثم قال الشيخ رضي الله عنه آية الطمس والمسخ والتغشية فقال : قال تعالى : (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ) .


قلت : وإنما تلى هذه الآية بعد الدعاء بمقتضاها تحقيقا لما تقتضيه من جواز إيقاع ذلك، واستدلالا لطلبه إياه، وتبركا بالآية في حصول المقصود منها في حق الأعداء، وإشارة، لأن وقوع ذلك من خاصيتها، لأن كل ذكر فخاصيته في معناه، وتصريفه في مقتضاه، وسره في عدده، وعلى نحو ذلك جرى كل أو جل من تكلم في الخواص بطريق القياس والنظر، كالقاضي التميمي، والشيخ أبو العباس البوني، وغيرهما والله أعلم .


وقد تقدم معنى الطمس والمسخ ومتى طمست الأبصار امتنع الإبصار، فاستبق أهلها الصراط لينفذوا فلم يجدوه، وإن وجدوه لم يصلوه، وإن وصلوه لم يقدروا النفوذ عليه، ولكنهم ممنوعون من ذلك لطمسهم ومسخهم .( فَأَنَّى ) أي : كيف يبصرون مع ذلك.







ثم رجع الشيخ رضي الله عنه لأول السورة فقال : قال تعالى : (يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) ثم قال الشيخ رضي الله عنه : قال تعالى : {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9).}[يس]


قلت : وإنما تلي الشيخ هذه الآية لأن سر الافتتاح يسري في كل السورة، ومدار السورة على مقدمتها، فالحرفان الأولان ترجمة ما تدور عليه السورة من الولاية، والسلامة، وظهور معنى اسمه السلام بعد الولي، وبيان ذلك أنه افتتح بعد ذلك بقسمه بالقرآن الحكيم على أنه صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وأنه على صراط مستقيم، وأن ذلك الصراط المستقيم تنزيل الذي لا يذل من ولاه، الرحيم الذي يسلم من تولاه، وأن ذلك لينذر قوما لم يسبق إليهم ولا لآبائهم إنذارا، فهم قول غفل، وإن ذلك إنذار وإعذار، وتنبيه لمن أراد الله نفعه، وإلا فقد حق القول على اكثرهم فهم لا يؤمنون .


وإنما يؤمن ويتعطف الأقل الذي أراد الله به الإحسان، فهو إخبار عن تسليمه لنبيه وسلامته وولايته له، ولعامة المؤمنين من عباده . ثم انظر كذلك الى آخر السورة تجده متتابعا، مسترسلا في المعنى، ومتحدا في السر والمبنى إلى قوله تعالى : {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[يس:83] .


نعم، وجميع ما في القرآن يدور على ما ذكر من الولاية، والتسليم بمعنى انه مقصود له، ومن ثم جاء في الحديث الشريف : (قلبُ القرآنِ يَس ) كما رواه الترمذي وغيره . قيل : وقلب يس { سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}[يس:58-59] . فان قلت : فلم آخر السورة عن الآية التي بعدها، وقدم الآية التي بعدها قبلها ؟ قلت : إنما أتى بالآية أولا استطرادا، ثم ذكر أول السورة استذكارا، وكأنه تنبيه على أن معنى ما ذكر سار في كل ما ذك، والأخذ منه بحسب المقاصد، ولا يضر التقطع إذا لم يكن مقصودا للتحويل، ولم يفهم تغير النظم، والله أعلم .


ثم قال الشيخ رضي الله عنه : (شَاهَتِ الْوُجُوهُ،شَاهَتِ الْوُجُوهُ، شَاهَتِ الْوُجُوهُ)(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).


قلت : شاهت الوجوه يعني ذلت، وخضعت، وخابت، وخسرت، فانصرفت بغير مرادها، مقهورة، مغلوبة . وهذه الكلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين قابل الجيش بعد جولة المسلمين، وافتراقهم عنه لظنهم موته، إذ صرخ الشيطان، فأخذ صلى الله عليه وسلم كفًّا من الحصى، ورمى بها وجوههم قائلا : (شاهت الوجوه) فما منهم رجل إلا وجاء في عينيه الحصى المرمي به، وانهزموا فارين وهو صلى الله عليه وسلم يقول :


أنا النبي لا كذب * أنا بن عبد المطلب


وأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك :( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ) الآية، فهي موضوعة لهزم الجيوش، وصرف العدو تأسيا بالسنة، وعلى ذلك جرى الشيخ في سياقها، إذ الحقها بآية صرفها الأعداء، وطمسهم طلبا للنصرة في الجملة، واتباع ذلك بقوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) واستطرادا لذلك وتنبيها ان كل من دونه محتقر، إذ معنى عنتك : ذلت وخضعت. والحي القيوم، هو الله سبحانه وتعالى، فهو حي لا يموت، وكل من دونه من حي يموت . فالحي الذي يموت حياته مستعارة لا حقيقة لها إلا بالحي الذي لا يموت . فالحي الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، ومن سواه لا حياة له وأن كان حيا، لأنه معه كالميت في الوجود، ولا حركة إلا به، وان كان له وجد من القدرة فلا أثر لها .


والقيوم هو القائم بنفسه الذي لا يجوز عليه الافتقار، والقائم بغيره الذي كل شيء مفتقر إليه في قيام ، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، أي المجازي لها بما فعلت، فالحي القيوم من الأسماء العظيمة، أسماء الذات الكريمة، قيل : وهي اسم الله الأعظم، وهو الذي دلت عليه الأحاديث، وشهدت به حقائق المعاني. وفي حديث أسماء بنت عميس رضي الله عنها : اسم الله الأعظم في آل عمرن والبقرة - وزاد غيره - وطه - وقول الشيخ رضي الله عنه : (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) يعني في الدنيا بعدم النصر، وانتفاء التأييد، وفي الآخرة بالطرد والعذاب الشديد، فهو متوعد بالخيبة في الدارين، ثم لابد من آخذة لا ينفعه فيها شيء، ولا يزال الله ينتقم من ظالم بظالم حتى ينتقم منهم جميعا، قال تعالى : {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.[الأنعام:129] وهذا كله على معنى الخبر في الآية، ويكون الشيخ رضي الله عنه أتى بها استطرادا وبناء على حسن الظن بالله، ويكون بمعنى الدعاء عليهم بالخيبة فيما هم به، فانظر ذلك وافهم.






ثم قال الشيخ رضي الله عنه : (طس، حمعسق، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ، حم، حم، حم، حم، حم، حم، حم، حُم الآمر، وَجَاءَ النَّصْرُ، فَعَلَيْنَا لَا يُنْصَرُون) .


قلت : هذه الرموز للتبرك، وعل الوجه الذي تقدم في ( كهيعص ) و ( يس ) من الإشارة والتنبيه ان شاء الله، فالطاء للطهارة، والسين للسلامة، والقاف للقدرة، لأن سورة النمل قد أفادت كل قصصها طهارة المؤمنين وسلامتهم، وكذا كل ما ذكر فيها :


- فأول ذلك طهارة موسى عليه السلام وسلامته من فرعون وقومه .

-وسلامة سليمان وداود عليهما السلام في ملكهما من كل نقص، وظلم، وقصور، وتقصير.

- ثم سلامة الهدهد وطهارته من المخالفة فيما هو به .

- ثم سلامة بلقيس وطهارتها بالإسلام .

- وسلامة جند سليمان عليه السلام وطهارتهم في مقابلة قومها .

- ثم طهارة صالح عليه السلام وسلا مته من قومه .

- ثم طهارة هود عليه السلام وسلامته من فعل قومه وآذاهم .

- ثم طهارة عباد الله المخلصين , وسلام الله عليهم .

وأَجْرَ على ذلك بقية السورة، واعتبر ظهور سر الملك والرمز له بالميم في بقية الطواسيم، وسقوطها من هذه لظهور معناها بوجه جلي، وإنما يرمز للأمور الخفية حتى يكون سر المعنى ظاهرا من وجه الرمز، ومن ذلك إسقاطه البسملة من سورة التوبة، إذ إنما أسقطت فيها تنبيها على أنها اختصت من الرحمة ما لم يختص به غيرها، وهو تنزل الحق لعباده بالاشتراء، وتعريفهم بأحوال أهل الافتراء، حتى لا يقع مواقع الصد والامتراء .


وقِسْ على هذا، واعتبر في الحواميم بما هو معناها، واعتبر قوله : ( حمعسق ) لأن (حم ) للحماية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للصحابة يوم أحد : ( ليكن شعاركم حم لا ينصرون )، إذ آن الله يدافع عن اللذين آمنوا .


وترجمة ذلك في قولهم : " الله مولانا ولا مولى لكم " في مقابلة قولهم " لنا العزَّى ولا عَّزى لكم "، وقولهم : " الله أعلى وأجل " في مقابلة قول قائلهم : " أعلى هبل ".


وقوله : ( عسق ) إشارة لإسمه العليم، السميع، القيوم، فتحصل العناية بالحماية، والسلامة، والقيام في الامور، إذ الحماية مرجوة بعلمه، وتسليمه، وقدرته بالحماية من حضرة الأفعال .


وما ذكر في العين، والسين، والقاف من معاني الصفات، وهما بحران جاريان في المخلوقات، ممتزجان في ظهور الأثر، غير ممتزجين بالحقيقة، والخبر بينهما برزخ هو الفعل والانفعال .


( لا يبغيان ) أي يدخل معناهما في بساط الجلال والجمال، بينهما برزخ لا يبغيان، أي لا يبغي واحد منهما على الأخير فينفيه او ينافيه .





ثم ذكر الشيخ الحواميم السبعة وعددها على أن وجوب الحمايات سبعة، يختلف أصلها، وفرعها، وبساطها، وانبساطها باختلاف في ظهورها ومظاهرها .


وقد جمع ما في ترجمة أولها من قوله تعالى : ( حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ).غافر:3]


كل واحد بسط على ما وقعت عليه بما فيها من القصص وغيرها، وتنبيه على ما دلت عليه، وفي كل سورة نكتة جامعة، وآية واضحة، وشأنها كظهور عزه وعلمه في السورة الأولى التي نكتتها : ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا)[غافر:51]، وخاتمتها قوله تعالى : (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ).[غافر:85]


وظهور غفرانه وعطفه في السورة الثانية التي طالعتها ذكر الرحمة ونكتتها قوله تعالى : (مَّا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ)[فصلت:43]، وخاتمتها قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[فصلت:53] إلى قوله تعالى : ( مُحِيط ) .


وظهور توبته وعفوه في السورة الثالثة التي طالعتها ذكره تعالى إنه علي، عظيم، ونكتتها قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[الشورى:25] وخاتمتها قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الشورى:52] .


وظهور عقابه للكافرين وزجرهم في سورة الزخرف، وهي الرابعة، واعتبر ذلك بما في طالعتها من قوله تعالى : (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ)[الزخرف:6] ونكتتها في ذكر تفاصيل عذاب أهل النار، وندائهم بقوله تعالى : (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)[الزخرف:77] الى غير ذلك، وخاتمتها قوله تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[الزخرف:89]، وظهور طوله أي غناه .


ووجود الخير في بداية السورة الخامسة، التي هي سورة الدخان التي طالعتها قوله تعالى : (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدخان:4] ونكتتها قوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ)[الدخان:40] إلى قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)[الدخان:49]، ثم إلى آخر السورة ظاهر في تعريف الغنى والعز، وظهور الألوهية وبرهانها في سورة الجاثية، إذ بذؤتا وجه الاعتبار، وأوسطها قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا) وخاتمتها قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).


ثم ذكر ان الأمور تصير إليه سبحانه وتعالى في سورة الأحقاف , اذ جعل طالعتها مبدا الخلق واليه المنتهى أولا، وجملتها بسط وجودهم وموجودهم ، وخاتمتها قوله تعالى : ( فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ).


فتأمل ذلك، وانظر ببصر بصيرتك، تجده تام الاعتبار ، على وجه لا أقدر على استيفائه، ولا يستوفيه إلا ذو القلوب والأبصار، وأهل النظر والاعتبار، وربك الفتاح العليم .

وقوله : ( حُم الآمر ) معناه اشتد، واستوى، وتتابع بالحماية .

وقوله : ( وجاء النصر ) : أي الإعانة بيد القدرة .

وقوله : ( فعلينا لا ينصرون ) يعني الأعداء، ومن في معناهم، وقد جاء في الحديث الشريف : ( من قرأ آية الكرسي ، مع أول حم المؤمنين، في صبيحة يوم، حفظ حتى يمسي، ومن قرأها مساء حفظ حتى يصبح ) وروي مع ذلك سورة الدخان .

وقد تقدم الكلام عليها، فتأمله راشدا، وبالله التوفيق .






ثم قال الشيخ رضي الله عنه : (بِسْمِ اللَّهِ بَابُنَا تَبَارَكَ حِيطَانُنَا . يس سَقْفُنَا . كهيعص كِفَايَتُنَا . حم عسق حِمَايَتُنا . فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )


قلت :


يقول الشيخ : بسم الله ندخل الأمور، ونخرج منها، وبه نتحصن من كل آفة وفتنة، لأن الباب هو المدخل، والحصن من كل آفة وفتنة، فهي باب الأمور ومفاتيحها .

وقد جاء في الحديث : "من أراد أن يحيا سعيدا، ويموت شهيدا فليقل عند ابتداء كل أمر بسم الله، وعند الفراغ منه الحمد لله" الحديث .


وقد أمر سبحانه وتعالى بذكر اسمه الكريم في البدايات، تارة مع تكميل البسملة، وتارة دون تكميلها . فالبسملة باب، وتبارك حيطان - يعني سورة تبارك - لأنها حصن من الأعداء، وجامعة للمنافع، كما جاء في فضلها - أعني سورة تبارك - الملك، ولأنها موقف التوكل والمجادلة والحراسة لمن تبرك بقرائتها، قالوا : وعليها كان سلوك الشيخ سيدي أبي مدين رضي الله عنه، ويناسبها من الأذكار : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) فلذلك كانت خلوته بها .


وسورة : (قل أعوذ برب الناس) من معنى ذلك . والله أعلم.


و(يس) هي السقف الذي به الستر، ودفع الأمور النازلة، فسورة (يس) لمن تلاها ستر وحماية .

وقد تقدم ما في ( كهيعص ) من المعنى والمبنى، وأن خاصية كل اسم من معناه، وتصريفه في مقتضاه وسره في عدده .

وقد تقدم أيضا ما في قوله : ( حم عسق ) وأنها حماية، وعناية، وسلامة، وقيام .


وقد قيل : إن من عقد أصابعه بقوله : ( كهيعص، حمعسق ) يجعل كل حرف في مقابلة إصبع، ثم دخل على من يخاف منه، وفتح أصابعه في مجلسه، وحيث يقابله، سواء رآه أو لم يره كانت له حصنا وقبولا عظيما، وإن أضاف اليها قوله تعالى : (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) كان سرا عجيبا، فلذلك ذكرها الشيخ هنا، وفيها سر التوكل والكفاية، وإنما ذكرها ثلاثا، لأن سنة الذكر ثلاثا، والله أعلم.






وقال الله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) وقيل : القناعة .

وإنما وصف الأولياء بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لأنهم قد استسلموا إلى الله، ورضوا عنه، فلا يختارون غير مختاره، وذلك أمر لا يصح معه حزن ولا خوف .والله أعلم.

وقد تقدم معنى ( العلي العظيم ) أول الكتاب فانظره هناك .


وإنما ذكر الأوراد ثلاثا ثلاثا لما ذكرناه من أن سنة الدعاء والتعوذ والرقي، ونحوه أن يكون ثلاثا، والله أعلم .

وقد جاء في الحديث : (من قال : "فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" بعد صلاة الصبح سبع مرات كفاه الله يومه ذاك، وإن لم يكن صادقا، وإن قال مساء كذلك حتى يصبح) .


وروي عبد الملك بن حبيب أن من قالها عشرا صباحا كفاه الله شر ما خلق، وذكر مثله في المساء، والأول صحيح أو قريب من الصحة بخلاف الثاني .وبالله التوفيق


انتهى شرح حزب البحر للشيخ احمد الزروق رضي الله عنه .

 منقــــــــــول 








.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

👍👍👍👍👍

We feel joy when we are spiritually connected to Allah.
نشعر بالسعادة عندما نكون مرتبطين روحيا بالله.